محضر 20 يوليوز في ميزان القانون والدستور
الدكتور نورالدين أشحشاح
أستاذ القانون العام
رئيس المركز المغربي للدراسات التشريعية
يقوم المرفق العام على مبادئ متعددة، من أبرزها مبدأ المساواة والاستمرارية والتضامن والقابلية للولوج وكذا مبادئ الشفافية والحياد والثقة أو الوثوقية، وهي مبادئ راكمها القضاء الإداري أولا، ثم جرت دسترتها إما صراحة بواسطة الدساتير أو عبر اجتهاد القاضي الدستوري. وقد أصبحت بموجب ذلك مبادئ لا يمكن للمشرع ولأجهزة الدولة عموما إلا احترامها وعدم مخالفتها.
والدستور المغربي الجديد لفاتح يوليوز 2011، نص على مجمل هذه المبادئ في فصوله 154 وما يليها، حيث نص في الفصل 154 على مبادئ المساواة في الولوج إلى المرافق العمومية، والإنصاف في تغطية التراب الوطني، وكذا على مبدأ الاستمرارية في أداء الخدمات، كما نص على أنها تخضع لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع أيضا للمبادئ والقيم والديمقراطية التي اقرها الدستور .
وقد نص في الفصل 155 على أن أعوان المرافق العمومية يمارسون وظائفهم وفقا لمبادئ احترام القانون والحياد والشفافية والنزاهة والمصلحة العامة، وقد أضاف الفصل 156، فضلا عن مبدأ المراقبة الذي تخضع له المرافق العمومية، ضمنيا مبدأ التشارك في عملها .
ولا يتوقف احترامها على وجود نص صريح في الدستور، فجدير بالذكر أن قائمة المبادئ التي تحكم المرافق العامة إن وجدت فيه فإنها لا تكون أبدا حصرية، فلقد كانت سارية النفاذ حتى قبل أن يتضمنها الدستور الحالي، فالمجلس الدستوري رغم أنه لم يجد في إحدى اجتهاداته أي نص صريح على مبدأ استمرارية المرفق العمومي إلا انه اعترف له بالقيمة الدستورية، لقد صرح “أن عرض الحكومة لمشروع قانون المالية على مجلس النواب للبت فيه نهائيا يكون على سبيل الوجوب لا على سبيل الجواز كما هو الشأن في مشاريع واقتراحات القوانين الأخرى، وذلك مراعاة لخصوصية القوانين المالية وما تقتضيه ضرورة انتظام سير المرافق العامة”.
فيما يخص الحق في الولوج إلى المعلومة نشير إلى أن المجلس الدستوري كان قد أسس لاجتهاد يتطور باتجاه تعميم حق الأفراد في بلوغ المعلومات العامة، وذلك في أفق فرض تحقيق شفافية إدارة الشؤون العامة، وفي هذا السياق اعتبر أن المادة العاشرة من القانون التنظيمي المتعلق بلجان تقصي الحقائق إذا كانت “تجيز للحكومة أن تحجب عن لجان تقصي الحقائق بعض المعلومات فإن ذلك يقتصر على القدر الذي يتطلبه ضمان سلامة الدولة في الداخل والخارج”، ولقد شكل هذا الموقف بداية شروع المجلس الدستوري في إقامة الحدود بين متطلبات السرية، وبين ضرورة تحقيق شفافية التدبير العمومي، وهو السقف الذي اقتحمه الدستور المغربي عندما نص صراحة على الحق في الولوج إلى المعلومة وبين حدودها .
وفي قراءة للإشكالية القانونية التي طرحها عدم تنفيذ المحضر الموقع بين الحكومة المغربية من جهة وتنسيقيات الأطر العليا بتاريخ 20 يوليوز 2011، وفي بسط لتفاصيلها تظهر الحيثيات التالية:
1. المحضر وقع في ظل دستور 1996؛
2. المحضر وقع تطبيقا لمرسوم التوظيف المباشر الذي ينتهي حيز تنفيذه في 31 دجنبر 2011؛
3. المرسوم المذكور صدر في ظل قانون الوظيفة العمومية قبل تعديله في ماي 2011؛
4. المحضر أصبح تنفيذه بحكم الواقع في ظل دستور جديد؛
5. المحضر وقع بعد صدور قانون يعدل القانون المنظم للوظيفة العمومية في ماي 2011؛
6. المحضر أجل الشروع في تنفيذه إلى نوفمبر 2011؛
7. صدور مرسوم ينفذ الفصل 22 من القانون المعدل لقانون الوظيفة العمومية.
ولقد أصبح المحضر، نظرا لهذه التغيرات المتسارعة التي تظهر عدم قدرة المشرع المغربي على ضمان الأمن القانوني، يثير إشكاليات عدة، من أبرزها وضعيته القانونية إزاء مختلف هذه التدابير التي صدرت قبله وبعده، ما محله منها، هل تؤدي إلى إعدام قيمته القانونية وإبطال أثاره، أم أن المحضر وقبله مرسوم التوظيف المباشر يطابق القوانين والدساتير السارية النفاذ، إلى أي مدى لا يمس التوظيف المباشر بمبدأ المساواة في فرص الولوج إلى الوظيفة العمومية؟
إن محاولة الإجابة على هذه الإشكاليات الأساسية تقتضي تجزيئها إلى أسئلة فرعية نتناولها أسفله بالاعتماد على مقاربة قانونية، تدرس الجوانب القانونية للموضوع وللآثار المترتبة عن مختلف النصوص التي لها أو يفترض أن يكون لها أثار على محضر 20 يوليوز.
محضر 20 يوليوز وأجل تطبيق مرسوم التوظيف المباشر
إن إثارة هذه النقطة مبررها يتمثل في ضرورة معرفة مدى انقطاع اجل تنفيذ المرسوم عند توقيع محضر 20 يوليوز، واثبات أو نفي ذلك يثبت أو ينفي بطلان المحضر، بحسب ما إذا كان المرسوم قد انتهى اجله أم لا.
وما يلاحظ في هذه الحالة هو أن المحضر وقع بتاريخ 20 يوليوز، والمرسوم ينص على أنه ” بصفة استثنائية وانتقالية إلى غاية 31 دجنبر 2011، يؤذن للإدارات العمومية والجماعات المحلية أن توظف مباشرة، بناء على الشهادات، وخلافا للمقتضيات التنظيمية الجاري بها العمل، المترشحين الحاصلين على الشهادات العليا المطلوبة، في الأطر والدرجات ذات الترتيب الاستدلالي المطابق لسلم الأجور رقم 11″، ولقد حددت المادة الثانية من ذات المرسوم أن العمل بهذا المرسوم يتم ابتداء من فاتح يناير 2011.
ولا يمكن على أساس هذا النص إلا أن نجزم بأن الأطر العليا المعنية بمحضر 20 يوليوز قد اكتسبت حقا بموجب المحضر الموقع، ونعتبر أن إقصاءها من التوظيف المباشر هو مساس بمبدأ المساواة في الولوج إلى الوظائف العمومية إسوة بالأطر التي تم توظيفها خلال الدفعة الأولى، وحرمانهم من التوظيف بنفس شروط ومساطر الدفعة الأولى يشكل مساسا بمبدأ المساواة، فالمبدأ في هذه الحالة يقضي بأن يخضع الجميع لنفس شروط التوظيف المحددة خلال مدة سريان المرسوم، وهي التوظيف المباشر، وليس ذلك فقط، بل يحق لكل من تقدم خلال فترة سريان المرسوم بطلب التوظيف، وان لم يدخل تحت إطار المحضر، أن يستفيد من التوظيف المباشر.
يمكن على أساس هذه المناقشة أن نعتبر أن شروط الاستفادة من التوظيف على أساس المرسوم المذكور تتمثل فيما يلي:
أ. أولا: التعبير عن الرغبة في التوظيف، إذ لا يمكن أن نوظف من لا يرغب في التوظيف، فالاستفادة من المرفق أو الرغبة في الولوج إليه تقتضي التعبير عن هذه الرغبة من خلال الإعلان عنها أو التقدم بالترشيح؛
ب. ثانيا: التوفر على الشهادة المطلوبة، فما دام المرسوم سمح بالتوظيف على أساس الشهادة فكل حاصل على الشهادة المطلوبة يحق له التوظيف مع مراعاة الشرط السابق واللاحق؛
ت. ثالثا: احترام حيز نفاذ المرسوم: فالمرسوم حدد لتنفيذه أجلا معينا يمتد من فاتح يناير إلى متم دجنبر من سنة 2011، مما يجعل أن المتقدمين إلى التوظيف خلال هذه الفترة يحق لهم أن يوظفوا بنفس الشروط والمساطر، فكل من عبر عن رغبته في الولوج إلى الوظيفة العمومية وتوفرت لديه الشهادة أو التكوين المطلوب وتقدم بطلبه أو عبر عن نيته أمام السلطات العمومية بالتوظيف يصبح مستوفيا لشروط الولوج إلى الوظيفة العمومية.
وإذا كان الأمر على نحو ما هو مبين أعلاه بالنظر إلى الأجل المبين في المرسوم نفسه، فان سياق القضية يقتضي معرفة ما إذا كان صدور القانون المعدل لقانون الوظيفة العمومية بتاريخ 19 ماي 2011 يوقف أجل تطبيق مرسوم التوظيف المباشر، وإثارة هذا السؤال يندرج ضمن نفس الإشكالية السابقة المتمثلة في النظر في صحة أو بطلان المحضر تطبيقا للقاعدة التي مفادها ان ما بني على باطل فهو باطل.
هل أصبحت المباراة هي المسطرة الوحيدة بصدور قانون 50.05
ينص هذا القانون في مادته 22 على ما يلي:”يجب أن يتم التوظيف في المناصب العمومية وفق مساطر تضمن المساواة بين جميع المترشحين لولوج نفس المنصب، ولاسيما حسب مسطرة المباراة”.
قد يذهب البعض إلى أن هذه المادة قد أنهت إمكانية التوظيف على أساس الشهادات، وفي حال صحة ذلك فان المحضر سيكون عديم الأثر، نظرا لعدم مطابقته لقانون الوظيفة.
وبقراءة متأنية للنص يتبين أن المادة المذكورة لا تشكل أي قطع للأجل المحدد لتنفيذ مرسوم التوظيف المباشر، وذلك نظرا لان المرسوم نفسه يتطابق مع المادة 22 الجديدة، فمرسوم التوظيف المباشر احترم مبدأ المساواة بين المترشحين، واحترام المبدأ المذكور هو الشرط الوحيد الذي يشترطه الفصل 22 المذكور، وقبله يشترطه الفصل الخامس من دستور 1996 الذي كان ساري النفاذ وقت صدور الفصل 22 من قانون الوظيفة العمومية.
إن صدور الفصل 22 في صيغته المعدلة يشير إليها البعض بغية الإيحاء بأنها جعلت المرسوم غير قابل للتطبيق، أو أنها أنهت أجل تطبيق مرسوم التوظيف المباشر، وقول ذلك لا ينم في حقيقة الأمر إلا عن رغبة في تجاهل مبدأ المساواة بين المواطنين المنصوص عليه في دساتير المغرب كلها، أي انه منصوص عليه قبل صدور مرسوم التوظيف المباشر، ونحن نتفهم هذا البعض إذ يستعمل لغة الإيحاء وليس التصريح، وذلك مخافة أن يؤدي التصريح، بالبعض الآخر إلى القول أن مرسوم التوظيف المباشر نفسه غير دستوري، والحال أن مرسوم التوظيف المباشر وكذلك محضر 20 يوليوز، كلاهما مطابق للدستور وللفصل 22 المعدل لقانون الوظيفة العمومية، وذلك وفق ما يلي:
1. الدستور المغربي الحالي والدساتير السابقة تنص على مبدأ المساواة، وهو مبدأ عام يشمل إجراءات التوظيف وغيرها من المظاهر التي تتطلب المساواة بين المواطنين؛
2. الفصل 22 المعدل لقانون الوظيفة العمومية ينص على المساواة بين المترشحين لنفس المنصب ؛ وصدور هذا الفصل هو لتطبيق الفصل الخامس من دستور 1996 المشار إليه أعلاه، وقد بين كيفية تطبيق المساواة في الولوج إلى الوظائف العمومية بالقول: ” يجب أن يتم التوظيف في المناصب العمومية وفق مساطر تضمن المساواة بين جميع المترشحين لولوج نفس المنصب، ولا سيما حسب مسطرة المباراة”.
وتثير هذه الفقرة من الفصل 22 تساؤلات ونقاش، اتخذ اغلبه شكل التلميح، فوجهة النظر الموالية للحكومة تتشبث بالمباراة بمبرر الحرص على المساواة بين المواطنين، ولأصحاب هذا الرأي نقول أن اعتماد أساليب أخرى ومنها الأسلوب المتبع خلال سنة 2011، والمفروض الالتزام به في توظيف الأطر المعطلة الموقعة على محضر 20 يوليوز، لا يمس بتاتا بمبدأ المساواة، وهو مطابق تمام المطابقة للفصل 22 من قانون الوظيفة العمومية كما تم تعديله، ومطابق قبله للدستور السابق والحالي، وذلك للأسباب التالية:
أ. إن وجود عبارة “لاسيما حسب مسطرة المباراة” يفيد أن المباراة هي الطريقة المفضلة لدى المشرع، لكنها لا تفيد الحصر ولا تمنع المساطر الأخرى، فهدف المشرع هو تحقيق المساواة، والمباراة هي الطريقة المفضلة لدى المشرع لتحقيق المساواة، دون أن يعني ذلك أن غيرها من المساطر لا يحقق هذه المساواة ودون أن يعني أن المشرع يمنع المساطر الأخرى، فالتوظيف في نظر المشرع يشترط فيه المساواة وليس المباراة، وإلا أصبحت المباراة تعني المساواة، وشتان بينهما من حيث المبنى والمعنى.
إن عبارة “لاسيما” تفيد التفضيل دون الحصر، فهي تعني أن المباراة هي مسطرة التوظيف التي يجب أن تشكل القاعدة لان المشرع يفضلها، لكنها لا تعني أن المشرع لا يقبل المساطر الأخرى إذا رأت الحكومة اعتمادها، وإذا أمكن القول بتعبير آخر فإن المشرع يريد أن يجعل من المباراة قاعدة في التوظيف، لكن إرادته تلك لا تعني أنه يرفض المساطر الأخرى، فالقاعدة لا تعني الإطلاق.
ب. الفصل 22 نفسه يقول: وفق “مساطر” وهذه تحمل معنى التعميم، والمشرع يريد بذلك أن مساطر التوظيف كثيرة ويشترط فيها أن تحقق المساواة، أما التفضيل الذي يفهم من النص من استعمال تركيب “ولاسيما”، فذلك من أجل جعل المباراة قاعدة في التوظيف، أي يجب جعلها المسطرة المتبعة عادة دون أن يمنع ذلك من اعتماد مساطر أخرى غيرها شريطة أن تحقق المساواة؛
ج. الإطلاق الوحيد الواضح في الدستور والقانون المعدل للوظيفة العمومية هو مبدأ المساواة الذي لا يمكن بتاتا مخالفته، لذلك نعتبر أن المرسوم ومعه المحضر الموقع بتاريخ 20 يوليوز يعتبر مطابقا للقانون طالما احترم مبدأ المساواة في التطبيق، ولتحقيقها يجب أن تكون عملية التوظيف سواء بالشهادات أو بالمباراة محترمة مثلا لمبادئ العمومية والتجريد، وان لا تكون انتقائية أوتمييزية على أي أساس كان التمييز. ولا يخفى أن المساواة بهذا المعنى يمكن ان تتحقق في طريقة التوظيف المباشر كما في طريقة المباراة، وكلا المسطرتين يمكن أن تكونا غير محترمتين للمساواة، وذلك متى أقصي احد ممن تقدموا بطلب التوظيف خلال سنة 2011 سواء كان مسجلا في تنسيقية أو اكتفى بتقديم ترشيحه مباشرة إلى الإدارة العمومية؛
د. ليس تمييزا اعتماد التوظيف المباشر في حد ذاته: من الخطأ الاعتقاد أن المحضر وقبله مرسوم التوظيف المباشر يقيم تمييزا يمس بمبدأ المساواة بين المواطنين، عندما يوظف على أساس الشهادات، فالمرسوم لا يميز بين المرشحين لهذه الوظائف، وإنما يشترط فقط التوفر على الشهادة المطلوبة، في التطبيق فقط كان على الحكومة أن تحرص على توظيف جميع من طلب التوظيف وتوفر لديه شرط الشهادة، ولا يمكن أن يتحدث المساس بالمساواة إلا إذا تنصلت الحكومة من توظيف من تقدم بطلبه عن طريق التنسيقيات أو أهملت من أودع طلبه أو ترشيحه لنفس الوظائف لدى الإدارة العمومية ؛
نخلص من مناقشة الفصل 22 من القانون المعدل للوظيفة العمومية إلى ما يلي:
– انه يشكل تطبيقا للفصل الخامس من دستور 1996، الذي يشترط المساواة، ومن ثم فإن صدور هذا القانون المعدل في فصله 22 لا يضيف آثارا جديدة إلى النظام القانوني المغربي وخصوصا إلى قانون الوظيفة العمومية (فيما نحن بصدد مناقشته) سوى القول بأن المباراة هي من بين المساطر التي يمكن أن تحقق المساواة دون سد الباب أمام المساطر الأخرى؛
– وكون هذا الفصل المعدل من قانون الوظيفة العمومية على نحو ما أشرنا إليه فإنه لا يقطع أجل تطبيق مرسوم التوظيف المباشر، لأن هذا الأخير متطابق معه باعتماد مسطرة للتوظيف تحقق المساواة بين المترشحين وهي التوظيف على أساس الشهادات؛
– إن صدور مرسوم التوظيف المباشر وبعده قرار التوظيف بموجب محضر 20 يوليوز لا يشكل مخالفة لدستور 1996 ولا للفصل 22 من القانون المعدل لقانون الوظيفة العمومية.
شرعية ودستورية مرسوم التوظيف على أساس الشهادات، وبالتبعية قرار محضر 20 يوليوز
لاشك في أن الكثير من المهتمين بالموضوع تحيلهم مناقشة شرعية ودستورية المحضر إلى التشكيك في دستورية الأصل (مرسوم التوظيف على أساس الشهادات الصادر في ابريل 2011)، قبل الفرع (المحضر)، فتجد منهم من يعتبر أن العملية كلها من الناحية القانونية والدستورية غير مقبولة، وإذا كنا لا نناقش العملية من الناحية السياسية، فإننا في علاقة مرسوم التوظيف المباشر بقانون الوظيفة العمومية لا يمكن إلا أن نؤكد انه في حالة تطابق تام، وذلك لسبب بسيط هو أن قانون الوظيفة العمومية الذي صدر في ظله المرسوم ينص في فصله 22 على التالي: “يقع التوظيف في كل منصب من المناصب إما عن طريق مباريات تجري بواسطة الاختبارات أو نظرا للشهادات، وإما بواسطة امتحان الأهلية أو القيام بتمرين لإثبات الكفاءة، وذلك مع مراعاة المقتضيات المؤقتة المقررة في التشريع الجاري به العمل، وفيما يتعلق بالوظائف التي تكون إطارا واحدا، فإن التوظيف يمكنه أن يكون خاصا بكل إدارة أو مشتركا بين عدة إدارات”.
هذا الفصل إذن، في طبعته لما قبل تعديل ماي 2011 كان ينص صراحة على أن التوظيف يمكن أن يتم بالشهادات، ومن ثم فالقاعدة تقضي أن لا مساغ للاجتهاد ولا تفسير عند وضوح النص، فأصل الفرع مطابق للقانون. أما من حيث مطابقته للدستور فلا بأس في التذكير بما أشرنا إليه سابقا، وهو أن التوظيف بالشهادات يشترط فيه كما يشترط في غيره أن يحترم مبدأ المساواة، بمعنى أنه يكفي أن يتخذ التوظيف خصائص العمومية والتجريد ليصبح مطابقا لمبدأ المساواة المنصوص عليه في جميع دساتير المغرب، ولا يطبق على البعض ويستثنى منه الآخرون، وان لا يكون انتقائيا يحابى به البعض ويخضع الآخرون لشروط ومساطر أخرى على أي أساس وتحت أي ذريعة كانت، وفوق ذلك فشرط المساواة ينطبق على جميع المساطر، بما في ذلك المباراة التي يجب أن تحترم مبدأ المساواة.
اقتصار التوظيف بالشهادات على مرشحي 2011 ليس مخالفا لمبدأ المساواة
للمبدأ في علاقته بالمرافق العامة مظهران، مساواة المرتفقين أمام الإدارة ثم مساواة المرشحين في الولوج إلى مناصبها، أي المساواة في الاستفادة من خدماتها دون تمييز على أي أساس كان، والمساواة في الولوج إليها في إطار الوظيفة العمومية دون حدوث تمييز بين المرشحين لتولي مناصبها. غير أن من الحكمة القول أن المساواة لا تتعارض مع وضع شروط أو تحديد مساطر للولوج أو الاستفادة، فالتوظيف بناء على المباراة لا يشكل تمييزا ضد من لا تتوفر فيهم شروط التقدم للمباراة، وكذلك التوظيف على أساس التكوين أو الشهادة، فهذا لا يعتبر تمييزا ضد من لا يتوفرون على التكوين أو الشهادة المطلوبة. غير أن السؤال الذي يطرحه الموضوع هو إلى أي مدى لا يشكل تحديد اجل المرسوم على سنة واحدة مخالفا لمبدأ المساواة، بمعنى الى أي مدى لا يعتبر ذلك تمييزا ضد خريجي السنة الموالية 2012 مثلا؟
إذا تركنا جانبا تحفظنا بشأن احترام تطبيق المرسوم من قبل الحكومة، فإنها اذا كانت قد اتخذت الاحتياطات الواجبة لحماية مبدأ المساواة، فإنها يبقى لها من الناحية القانونية متسع من الحرية والسلطة لتقدير وجود دواعي اعتماد مسطرة المباراة أو غيرها، فلها أن تستعمل أي مسطرة من المساطر التي تحقق ذلك، وذلك كلما رأت من الأمور ما يستدعيها، هذه الأمور التي يرجع إليها تقديرها، ومنها حدوث تضخم في عدد المعطلين الحاملين للشهادات، أو ربما عدم القدرة على تحقيق المساواة بالاعتماد على المباراة، فقد تقدر هي ذلك، وتأخذ جديته ومدى تطلبه للجوء إلى مساطر توظيف أخرى غير المباراة، وفي حال قدرت وجوده أمكنها أن تلجأ إلى التوظيف بالشهادات أو غيرها من المساطر، شريطة أن تحترم المبدأ الوارد في النص بالإطلاق وهو مبدأ المساواة.
وبقدر سلطتها في مجال تقدير وجود دواعي اعتماد مسطرة التوظيف بالشهادة، بقدر سلطتها في تقدير الحيز الزمني لذلك. ونظرا لسلطتها التقديرية في هذا الباب فإن اقتصار التوظيف على سنة 2011 لا يشكل تمييزا ضد حاملي الشهادات العليا الذين تخرجوا بعد هذه السنة، فللحكومة أن تقدر متى تحتاج البلاد إلى استعمال هذه المسطرة أو تلك، وذلك شرط أن يكون الحيز الزمني المحدد لاعتماد هذا التوظيف يسمح لجميع من تتوفر فيهم الشروط بالتقدم بترشيحاتهم ويعطيهم متسع من الوقت لذلك، ولا يطرح التمييز في هذه الحالة إلا إذا كان تمييزيا بطبيعته بحيث لا يتيح لجميع من تتوفر فيهم الشروط ما يكفي من الوقت، كأن يفتح أجل الترشح للمباراة لمدة لا تتيح للمواطنين القاطنين في الأقاليم البعيدة بالمشاركة.
لا حاجة إلى إثارة مبدأ عدم رجعية القوانين لإثبات صحة المحضر
يمثل مبدأ عدم رجعية القوانين احد الأدوات التي بلورتها الأنظمة القانونية لصيانة الأمن والاستقرار القانوني في وجه التغيرات المتسارعة في الإنتاج التشريعي للدولة. وجدير بالذكر أن الأمن القانوني هو وجه من أوجه الحق الطبيعي المتمثل في “الحق في الأمن”، أحد أوجهه الرئيسية التي تحمي المواطن من تحكم السلطة واستبدادها.
ويقضي هذا المبدأ أن القانون الجديد، لا يحق تطبيقه على الحالات والوقائع الحاصلة قبل دخوله حيز النفاذ. فالفعل الواقع في ظل سريان نص قديم يجب أن يطبق عليه هذا النص، حتى وإن الغي هذا النص بصدور آخر جديد، ماعدا في بعض الحالات المعروفة لدى الفقه والقضاء ومنها ما يقع تحت “مبدأ القانون الأصلح للمتهم”، فعندما يحاكم شخص أمام القضاء الزجري، وقبل صدور الحكم دخل نص جديد إلى حيز النفاذ، في هذه الحالة يعمل بقاعدة النص الأصلح للمتهم.
وفي الحقيقة فان نقاشا أثير حول هذا المبدأ بمناسبة مناقشة دستورية محضر 20 يوليوز، وعلى الرغم من أن عدم الرجعية قائمة وظاهرة للجميع، حيث أن النص الدستوري لم يدخل حيز النفاذ إلا بعد صدوره في الجريدة الرسمية (عدد 5964 مكرر بتاريخ 30 يوليوز 2011)، فإن إثارتها ليست ذي أهمية تذكر في تقرير شرعية أو دستورية المحضر، وفي اعتقادي أن المسألة تثار من منطلق الشك في تعارضه مع مبدأ المساواة المنصوص عليه في الفصل السادس من الدستور الجديد، والحال أن الدستور السابق وجميع الدساتير التي سبقته نصت جميعها على مبدأ المساواة، الذي شكل أحد أعمدة نظرية الدستور.
وفي باب إشكالية الدستورية لا نجد تعارضا بين محضر 20 يوليوز وقبله مرسوم التوظيف المباشر، وذلك من منطلق أن ما اشترطه الدستور هو احترام المساواة بين المواطنين، هذه المساواة التي كانت ستخرق لو أن الحكومة أصدرت مرسوما يتيح لبعض فئات الأطر العليا إمكانية التوظيف المباشر على أساس الشهادة ويحرم أخرى باشتراط انتهاج مسطرة المباراة مثلا.
ويلمح البعض، ويؤسفنا أن يكون التلميح غالبا على التصريح في معالجة هذا الملف، إلى أن تطبيق المحضر في ظل الدستور الجديد سيشكل خرقا له، وفي الحقيقة فإن عدم تطبيقه هو الذي سيسقط الحكومة في خرق مبدأ المساواة، لاسيما وأن المحضر وقع في ظل مرسوم التوظيف المباشر المطابق للدستور كما رأينا أعلاه، ومادام الأمر كذلك فإنه لا يمكن حرمان المعنيين بالمحضر بل وحتى الذي عبروا عن رغبتهم في التوظيف بالشروط المطلوبة في مرسوم التوظيف المباشر أو تقدموا بترشيحاتهم مباشرة إلى الإدارة المعنية، يحق لهم أن يستفيدوا من المساواة بالدفعة الأولى التي تم توظيفها قبل ذلك.
تأجيل تنفيذ قرار محضر 20 يوليوز لا يخرجه من حيز تطبيق مرسوم التوظيف المباشر
ينص المحضر على ما يلي: “تتمة للمبادرة التي اتخذتها حكومة صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده … والتي همت إدماج 4304 إطارا بمختلف أسلاك الوظيفة العمومية … سيتم في نفس الإطار إدماج أطر المجموعات المتبقية التي قدمت لوائحها وتم حصرها والتأشير عليها من طرف المصالح الوزارية المكلفة بتدبير هذا الملف … يشرع في عملية الأجرأة بعد تحيين اللوائح … وذلك ابتداء من فاتح نونبر 2011 بتقديمها للمصالح الحكومية قصد برمجة المناصب المالية الخاصة بهذه العملية للقانون المالي لسنة 2012.
يرتبك البعض أمام تعدد المعطيات التي استجدت قبل الشروع في تنفيذ المقتضيات الواردة في محضر 20 يوليوز 2011، فبعده بعشرة أيام دخل الدستور الجديد إلى حيز النفاذ، وبعد ذلك بخمسة أشهر تقريبا أي بتاريخ 27 دجنبر صدر بالجريدة الرسمية عدد 6007 مكرر مرسوم يحدد شروط وكيفيات تنظيم مباريات التوظيف في المناصب العمومية ، وكل ذلك تم قبل نهاية أجل تنفيذ مرسوم التوظيف المباشر الذي تحدد أجل نهاية العمل به في 31 دجنبر 2011.
1- دخول دستور 2011 إلى حيز التنفيذ: كما سبقت الإشارة إلى ذلك فإن دخوله إلى حيز التنفيذ لا يغير شيئا في المعطيات القانونية للملف، لأن الدستور الجديد أعاد فقط التنصيص على ما سبق أن نص عليه الدستور السابق الذي صدر في ظله مرسوم التوظيف المباشر، ومن ثم ليس من تعارض بين مقتضياته المتعلقة بالمساواة في الولوج إلى الوظائف العمومية وبين التوظيف المباشر، مادام أن مسطرة التوظيف المباشر اعتمدت شروطا تم تعميمها على الجميع خلال اجل تطبيقه والمتمثلة في التوفر على الشهادة. يترتب عن كل ذلك أن تنفيذ مقتضيات المحضر لا يتعارض مع الدستور الجديد، بل إن عدم تنفيذه هو الذي يشكل خرقا لمبدأ المساواة الذي ينص عليه الفصل الخامس من دستور 2011.
2- صدور مرسوم ينظم شروط وكيفيات تنظيم مباريات التوظيف في المناصب العمومية: صدوره لا يقطع أجل تنفيذ مرسوم ابريل 2011 المتعلق بالتوظيف على أساس الشهادة، ولا يتعارض معه، وذلك لأنه اقتصر على تحديد الإجراءات التنفيذية للفصل 22 من القانون المعدل لقانون الوظيفة العمومية الذي سبقت الإشارة إليه، وجدير بالتذكير أن هذا الفصل إذا كان قد أشار إلى المباراة فإنه لم يستبعد إمكانية اعتماد مساطر أخرى للتوظيف شرط أن تحقق المساواة في الولوج إلى الوظائف المعنية.
على سبيل الختم
بعد هذه المناقشة القانونية للمناحي الأساسية للإشكالية التي طرحها محضر 20 يوليو، وبعد أن تأكد في نظرنا المتواضع أن النواحي القانونية للمحضر سليمة، وجب القول أن الدولة إذا كان من الصعب أن تتنصل من التزاماتها دون ترتيب مسؤوليتها في تعاملاتها الدولية، وخصوصا فيما تعقده من اتفاقات ومعاهدات ثنائية أو متعددة الأطراف، فإن هذا الالتزام والمبدأ المتعارف عليه في القانون الدولي له مقابله على صعيد القانون الوطني أو الداخلي للدولة، ويترجم بمبدأ استمرارية سير المرافق العمومية.
وبالإضافة إلى ما درج الفهم الشائع، والذي جعله مجرد مبدأ يتعين أخذه بعين الاعتبار في تنظيم حق الإضراب، فإن للمبدأ تطبيقات أخرى قلما تأخذ في التنظير للمبدأ وتحديد معناه وأبعاده وآثاره القانونية، ومن ذلك أن الحكومات والإدارات العمومية لا يمكنها أن تتنصل من التزامات الحكومات السابقة، وهذا يسري على مختلف الإدارات العمومية فيما تعقده من التزامات وصفقات وعقود، حيث أن المساس بها أو التنصل منها يرتب مسؤولية الدولة، وما أكثر القضايا المعروضة أمام المحاكم الإدارية في هذا الباب.
ومن اللازم القول أن مبدأ الثقة ضروري لتحقيق الأمن القانوني، فهذا المبدأ يفرض على الإدارة أن تتصرف كخصم شريف، تحترم حق المرتفق في الأمن القانوني وفي وثوقية علاقاته بالإدارة والمرافق العمومية. إن من شأن مخالفة هذا المبدأ الإضرار بثقة المرتفقين وعموم المواطنين في الإدارة وفي الدولة، وهذا يربك كل السياقات المحيطة بها، خصوصا في جوانب حيوية كالمعاملات التي تربط المواطن بالإدارة.
وبغض النظر عن هذه الأبعاد الايجابية للمحافظة على المبدأ وصيانته، فإن ما صرح به رئيس الحكومة أمام البرلمان، لا يستقيم مع هذا المبدأ الذي تقوم عليه المرافق العمومية، فالثقة هي ما يفترض في الإدارة، فحتى لو كان الموقع على المحضر من جانب الإدارة هو مجرد موظف عادي، فهذا لا يعفي الحكومة من الالتزام بمقتضياته طالما لم تبادر إلى نفي الصفة القانونية عنه، على اعتبار أن المرتفق أو المتعامل مع الإدارة يفترض دائما الثقة فيمن يتعامل باسم المرفق، كما أن المرتفق غير مطالب بإثبات أو التأكد من أهلية ممثل الإدارة، بل الإدارة هي من يجب أن يحرص على ذلك.
وحري بالذكر أن القضاء الفرنسي برع في شرح نظرية الموظف الفعلي والواقعي، التي تصلح للإجابة على تلميح رئيس الحكومة الأستاذ عبد الإله بنكيران إلى عدم اختصاص ممثلي الحكومة، فهذه النظرية تجسد إحدى الحالات القصوى التي يعترف فيها القانون بصحة الأعمال الصادرة عن موظف أمن استمرارية المرفق، ما لم تتدخل الحكومة نفسها، في الآجال القانونية المتعارف عليها لاكتساب القرارات الإدارية لحصانتها، لتنفي عنها صحتها، الشيء الذي لم يحدث في حالة محضر 20 يوليوز، حيث يعتبر سكوتها اعترافا بقانونيته.
وحتى في مثل هذه الحالة التي يفهم منها أنه يلمح الى عيب شاب تعيين موقعي المحضر من جانب الإدارة، نجد أن الاجتهاد القضائي سبق له أن اعتبر أن التعيين المعيب يعتبر صحيحا ما لم تسارع الجهة التي تختص بالتعيين إلى إلغائه. مما يجعل القرارات المتخذة في هذا الإطار (توقيع المحضر) صحيحة.