مساهمة في مناقشة الأسس النظرية لموقف رئاسة النيابة العامة بشأن السياسة الجنائية
الدكتور نورالدين اشحشاح
مناسبة هذا النقاش هو الاطلاع على مضامين تقرير رئاسة النيابة العامة لسنة 2018، حيث لم تقتصر خلاله على مناقشة أدائها في حسن تنفيذ السياسة الجنائية وعموم اختصاصاتها، بل انصرف جانب كبير منه إلى مناقشة موقعها من السلطة القضائية وعلاقتها بالسلطتين التنفيذية والتشريعية.
ومن بين حيثيات النقاش الذي دعا رئاسة النيابة العامة إلى توضيح تصورها بهذا الشأن، نجد ما أثير بمناسبة امتناعها عن المثول أمام لجنتي البرلمان أو انتداب من يقدم تقريرها أمامه، حيث اقتصرت على إحالته. لكن القضية تشعبت لتلامس عددا مهما من المفاهيم الأساسية، من جملتها ما هي السياسة الجنائية ومن يضعها ومن يحدد اولوياتها، وما دور الحكومة ووزارة العدل على وجه التحديد، وما موقع البرلمان من كل ذلك.
سنناقش بعض الأسس والمنطلقات التي بنت عليها رئاسة النيابة العامة تصورها لمفهوم السياسة الجنائية، وذلك وفق التالي:
الأساس الأول: استعارة تعريف قديم، يرجع إلى مطلع القرن التاسع عشر
وهو تعريف الفيلسوف الألماني “فيورباخ”، الذي يعتبر أن السياسة الجنائية تشمل : “مجموع التدابير الزجرية التي تواجه بها الدولة الجريمة”.
وفي الحقيقة كان يتعين على رئاسة النيابة العامة مراعاة التطورات التي طرأت على مفهوم السياسة الجنائية منذ ذلك التاريخ، فأخذها بتعريف فيورباخ يبدو لنا اختيارا معيبا، ما كان يجب أن يصدر عن مؤسسة رسمية، حفاظا على مركزها، وترفعا عن الانزلاق نحو تبني موقف فقهي متجاوز، وفي ذلك يمكن أن نستدل بالاتي:
أولا: التعريف جرت عليه الكثير من الظروف التاريخية والمستجدات
إن ظروف صياغة تعريف فيورباخ هي ظروف وسياقات ما بعد الثورة الفرنسية وما بعد مدونات نابليون بونابارت في فرنسا، وفي عموم أوروبا، وهي تجسد عصر الدفاع عن مبدأ التجريم بالقانون أو عصر تقديس القانون المكتوب، الذي تم الرهان عليه في تلك الفترة للحماية من الظلم، لذلك إذا تعصب فيورباخ للقانون الجنائي فذلك مقبول من هذه الزاوية فقط، لكن من زاوية واقعية كان الأجدر برئاسة النيابة العامة أن تدنو أكثر من عصرنا فتقف على الأقل عند أستاذ القانون الجنائي النمساوي “فرانز فون ليست” سنة 1882 الذي نطق جملة أصبحت مشهورة منذ ذلك التاريخ والتي تقول: “إن السياسة الاجتماعية الجيدة هي أفضل سياسة جنائية”.
– ثم ما قول رئاسة النيابة العامة في تجدد الظروف، هل الظروف المستجدة بعد الحربين العالمييتين هي نفسها ظروف القانون والإنسان والدولة في ما بعد الثورة الفرنسية؟، الجديد أن الظلم والعنصرية والاضطهاد والاستبداد والإبادة الجماعية مورست باسم القانون، ولم يعد المجتمع بعدئذ يعول عليه (أي القانون) في الحماية من الظلم، بعد أن بين أنه هو نفسه يمكن أن يتخذ أساسا للظلم.
لقد كانت هذه القناعة إيذانا بتكون وعي جديد، يدعو إلى البحث عن الحلول في مختلف المبادرات الاجتماعية التي يمكن أن تحد من الجريمة بشتى أشكالها، بما في ذلك الجرائم التي يمكن أن ترتكب باسم القانون والدولة، أو حتى تلك التي يمكن ان ترتكبها الدولة نفسها، وهذا ما جعل القانون يغلب وظائف الوقاية والحماية والعلاج، وقد انعكس ذلك حتى على ادوار النيابة العامة، وجعلها شريكا في الكثير من المهام والاختصاصات التي تتجاوز مجرد التنفيذ الآلي لمقتضيات القانون الجنائي والمسطرة الجنائية.
– التعريفات الجديدة لمفهوم السياسة الجنائية
هذه التعريفات التي تزامنت مع تطور التشريع، ومع اختلاف المراحل التي مرت منها البشرية، ومن جملتها:
– ما قاله الفقيه “مارك انسل” الذي أكد منذ 1975 على “عدم جواز اختزال السياسة الجنائية في القانون الجنائي”، واقترح أن نرى فيها “رد فعل الجماعة المنظم والمتفق عليه ضد الأنشطة الجرمية المنحرفة والمعادية للمجتمع” .
– تعريف “ديلماس-مارتي” الذي يعتبر القانون الجنائي مكونا من مكونات السياسة الجنائية. هذا التعريف الذي يبين أن السياسة الجنائية بمعناها la politique pénale ليست إلا مكونا من مكونات السياسة الجنائية بالمعنى الذي يحمله مصطلح la politique criminelle.
يجب أن نخلص مع هذه التعريفات إلى ما قاله أحد الباحثين: “إن القانون الجنائي ليس إلا نوعا من ردود فعل السياسة الجنائية، فهو يستهدف تحديد الجرائم والعقوبات التي تطبق عليها ويتم تفريدها من خلال الأحكام التي تنطق بها العدالة الجنائية “، لذلك لا يمكنه ان يختزل كل المعنى الذي تحمله السياسة الجنائية.
ثانيا: هل مازال المشرع الجنائي المغربي ينضبط لتعريف فيورباخ؟
القانون الجنائي أو المشرع الجنائي المغربي عندما يكون بصدد التفكير في الجريمة فإنه لا يقتصر في تفكيره على معاقبة الجاني وزجره وردعه، بل يفكر أيضا في أسباب الجريمة ويسعى إلى عدم حدوثها، لذا فإن السياسة الجنائية المغربية حتى بالمعنى الضيق الذي تحاول رئاسة النيابة العامة الدفع به، أي كقانون جنائي ومسطرة جنائية، تولي اهتماما بالمرحلة التي تسبق ارتكاب الجريمة وذلك بسن سياسة وقائية شاملة من شأنها أن تحول دون وقوع الجرم؛
ومن ضمن ما يتعين الإشارة إليه من أمثلة نجد، تجريم حمل السلاح فالهدف من التجريم في حالتها ليس إلا وقاية من وقوع الجرائم بالسلاح، وهي تدابير وقائية بالأساس، وتشكل رغم ذلك جزء لا يتجزأ من السياسة الجنائية.
لقد كان على رئاسة النيابة العامة، وهي بصدد إعداد تقريرها، أن تأخذ بعين الاعتبار التعديلات التي ادخلها المشرع ابتداء من مطلع الألفية الثالثة، والمنظور الجديد للسياسة الجنائية المغربية، فنظرته التي تراعي المفهوم الواسع للسياسة الجنائية هي التي حذت به إلى إقرار العدالة التصالحية، سعيا منه إلى محو آثار الجريمة بالحفاظ على الوضعية التي كانت سائدة قبل ارتكاب الفعل وذلك تجاوبا مع تراجع القيمة العقابية للعقوبة السالبة للحرية.
في نفس الاتجاه يجب أن نشير إلى أن المشرع المغربي إعمالا للمفهوم الجديد للسياسة الجنائية، أخذ بنظام الحرية المحروسة بالنسبة للأحداث حيث عهد إلى مندوب أو عدة مندوبين دائمين أو مجرد متطوعين في دائرة كل محكمة استئناف بالإشراف وتتبع الأحداث الجاري عليهم هذا التدبير لتجنيبهم العودة إلى الجريمة.
لا يبدو، بعد الذي سلف، أن الموقف المعبر عنه من قبل رئاسة النيابة العامة منسجما مع المفهوم الواسع الذي يتبناه المشرع المغربي، والأدهى ان موقفها لا يبدو منسجما حتى مع ما تؤديه على أرض الواقع من اختصاصات وأدوار.
ثالثا: عدم انضباط النيابة العامة للتعريف الذي اقتبسته
لا نريد أن نعتبر رئاسة النيابة بأنها جانبت الصواب لمجرد التمسك بتفسير ضيق متجاوز، طمعا في استقلالية جامدة قد تكون ضارة من الناحية الوظيفية، على اعتبار أنها بدورها لا تنضبط للأساس النظري الذي قدمته، وهو الذي يختصره تعريف فيورباخ.
لنا في تتبعها لأوضاع السجناء خير مثال على ذلك، ففي دورية صادرة عنها موجهة إلى النيابات العامة بتاريخ 15 نونبر 2017، في إطار اختصاصاتها المسندة لها بموجب المادة 616 من قانون المسطرة الجنائية المتمثلة في وجوب التأكد من شرعية الاعتقال ومسك سجلات السجناء، نجد رئاسة النيابة العامة توسع من معنى هذا الاختصاص المتمثل في التأكد من “صحة الاعتقال ومن حسن مسك سجلات الاعتقال”، فتعتبر أن “تفقد صحة الاعتقال يقتضي التأكد من قانونية الاعتقال وفق ما حدده المشرع في القانون المنظم للمؤسسات السجنية ونصوصه التنظيمية، بما في ذلك التثبت من الحقوق التي خولها هذا القانون للسجناء، كالفصل بين المعتقلين (بين الاحتياطيين والمدانين، وبين الرشداء والأحداث، وبين الذكور والإناث)، وتمتيعهم بالحق في التغذية والاستراحة والتطبيب والزيارة والمراسلة واحترام سلامة إجراءات التأديب …” .
فمن الناحية القانونية الدقيقة ليس من اختصاص النيابة العامة الا التأكد من شرعية الاعتقال ومن توفر المؤسسات السجنية على سجلات للسجناء، وذلك تفعيلا لمبدأ شرعية العقوبة، لكن ان تتحول النيابة العامة إلى حماية حقوق الإنسان السجين، ومراقبة مدى التزام المؤسسات السجنية بمقتضيات القانون المنظم لها، فبهذا نخشى أن تكون النيابة العامة في وضعين محتملين، فهي إما تجاوزت دائرة الاختصاص المسند لها، بل والدائرة الضيقة التي رافعت في دفاعها عن حصرية اختصاصها بها، فهذه لا تندرج في السياسة الجنائية بالمعنى الزجري، بل إنها أصبحت تتدخل وتغتصب مجالا يجب وفق التحديد الذي تبنه ان يكون من اختصاص وزارة العدل التي يتبع لها قطاع السجون، أو أنها، وهذا في الاحتمال الثاني، تتناقض مع موقفها القاضي بأنها تعرف السياسة الجنائية على قاعدة مفهوم الزجر، بينما نجدنا أمام مقاربة وقائية أو علاجية.
رابعا: موقف رئاسة النيابة العامة غير متوافق مع موقف القاضي الدستوري ومع الدستور
في قراره 16-992 اعتبر المجلس الدستوري أن “السياسة الجنائية التي تعد من السياسات العمومية، من خلال سن قواعد وقائية وزجرية لمكافحة الجريمة …”. ويتبين منه أن المجلس الدستوري يساوي بين السياسة الجنائية وباقي السياسات العمومية ويعتبرها جزء منها، الشيء الذي لم يولى له ما يستحق من الاعتبار في تقرير رئاسة النيابة، وعلى الخصوص عندما لم يتم الانتباه إلى أنه يتضمن موقفا للمجلس الدستوري يتجاوز منطلقات تعريف “فيورباخ”، بحديثه عن “سن قواعد وقائية وزجرية”، بينما تعريف فيورباخ يتحدث فقط عن “التدابير الزجرية”.
ويجب أن نشير إلى أن المجلس الدستوري عندما يعتبر السياسة الجنائية كسياسة عمومية فيجب ان يقرأ هذا التصريح في علاقته بالفصل 70 من الدستور الذي ينص على أن البرلمان”يصوت على القوانين … ويقيم السياسات العمومية”.
وعليه يتعين على مؤسسة رئاسة النيابة العامة إعادة النظر في تصورها للسياسة الجنائية بناء على هذه المعطيات.
الأساس الثاني: حصر السياسة الجنائية في القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية
النتيجة الأولى التي سعى تقرير رئاسة النيابة العامة إلى بلوغها، وعليها تتأسس النتائج الأخرى، هي أن السياسة الجنائية تتجسد وتتمثل في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية. وهي نتيجة غير صحيحة، على اعتبار التالي:
– الدستور هو المصدر والنص الأصلي الذي يحدد الأسس والمبادئ الأساسية للسياسة الجنائية، بل ويتضمن مقتضيات تجرم صراحة العديد من السلوكات والأفعال، فعلى سبيل المثال جرم المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، وممارسة التعذيب بكافة أشكاله، واعتبر الاعتقال التعسفي والسري والاختفاء القسري من اخطر الجرائم، لذلك يبدو من المعيب ان يصدر عن مؤسسة رئاسة النيابة العامة ما يفيد أنها تطبق السياسة الجنائية التي تنحصر في القانون الجنائي والمسطرة المدنية.
– التجريم ليس اختصاصا حصريا للقانون الجنائي، فكل القوانين تتضمن أبوابا أو فصولا تجرم وتحدد العقوبات، فالقانون التجاري مثلا ينص على الجرائم والعقوبات الخاصة بالتجار، وقانون الشركات كذلك، والقانون الانتخابي، وقوانين المياه والغابات والحريات العامة؛
– السياسة الجنائية لا يمكن أن تستمد من مجرد القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية، إذ يجب في ذلك أن تؤخذ بعين الاعتبار الاتفاقيات الدولية التي بدورها تتضمن آليات لتتبع التنفيذ، بالإضافة إلى أنها تحيط الدول بعدد من الالتزامات الرامية إلى تحقيق أهدافها، لاسيما بالنسبة للاتفاقيات ذات الطبيعة الحمائية، والتي صادقت عليها المملكة المغربية.
الأساس الثالث: النيابة العامة تحتكر وتقتصر على تنفيذ السياسة الجنائية
الواقع يشهد بغير ذلك، فإدارة السجون مثلا أصبحت تلعب دورا مهما ويعول عليها كثيرا في هذا المجال، وقد أصبحت فعلا تنفذ بدورها جانبا من السياسة الجنائية التي نص عليها المشرع وتستمدها من القوانين الصادرة عن البرلمان؛
وقد صدرت عدة نصوص قانونية تخص تنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، استهدفت أنسنة السجون وإضفاء روح العدل بها، ومن منظور نصوصها المنظمة أصبحت تميل إلى اتخاذ شكل مؤسسات للإصلاح والتربية وإعادة الإدماج أكثر منها الى سجون بمعناها المتجاوز، ولم تعد تقتصر على أداء دور المؤسسات العقابية المتمثل في عزل الجاني عن المجتمع، بل أصبح دورها يتمثل في إصلاحه كنزيل، وتأهيله لحياة اجتماعية شريفة وتجنيبه العودة إلى الإجرام عن طريق إتباع أساليب متخصصة في العلاج، عبر تلقينه مبادئ العلم والأخلاق والدين، وتعليمه مهنة يعتاش منها عند خروجه من السجن.
إن هذه الوظائف التي تقوم بها هذه المؤسسة لا يمكن إلا أن تندرج في صميم السياسة الجنائية للدولة المغربية.
من جهة أخرى، حتى بحمولته الضيقة الذي تؤكد عليه رئاسة النيابة العامة، التي تحصره في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية، يبدو أنها تقوم بأعمال أخرى تندرج ضمن السياسة الجنائية ولا تجد أساسا لها في القانون الجنائي بالمعنى الضيق للكلمة، ومنها:
1. القانون المتعلق بكفالة الأطفال المهملين؛
2. القانون المتعلق بالحالة المدنية؛
3. مدونة الشغل؛
4. القانون المتعلق بعمال المنازل؛
5. القانون المتعلق بزجر مخالفات الغش في التعمير والبناء؛
تجدر الإشارة الى أن رئاسة النيابة العامة في تقريرها اعتبرت أن تدخلها في هذه المجالات لا يجعل منها جزء من اختصاصات تنفيذ السياسة الجنائية التي تختص بها، وإذا تدخلت فيها فلأنها فقط تتعاون مع السلطات الأخرى.ومع كون هذا الاستنتاج لا يقوم الا على اجتهاد لمؤسسة النيابة العامة في غياب نص يقر صراحة بذلك، وجب التنبيه إلى أن ما تقوم من ادوار واختصاصات تستند إلى نصوص تشريعية صادرة عن البرلمان مثلها مثل القانون الجنائي والمسطرة الجنائية، ويبين ان دورها في تنفيذ السياسة الجنائية يمتد ابعد من مجرد الدعوى العمومية، وأبعد مما تحاول أن تحصر نفسها فيه.
الأساس الرابع: موقع البرلمان والحكومة من السياسة الجنائية
لقد عملت رئاسة النيابة العامة باسم نظرة ضيقة وتفسير متشدد على عزل الحكومة والبرلمان عن تتبع تنفيذ السياسة الجنائية وتحديد أولوياتها. هذا الإبعاد هدف استراتيجي بالنسبة لرئاسة النيابة العامة، وتحققه بطريقة ميسرة من خلال جعل وضع السياسة الجنائية من اختصاص البرلمان في مرحلة أولى، وبعده بجعل البرلمان بعيدا عن تحديد أولويات السياسة الجنائية، وقيامها برصدها مباشرة من خلال تتبع الرأي العام.
1. إبعاد الحكومة عن تتبع تنفيذ السياسة الجنائية:
فحسب تقرير رئاسة النيابة العامة فإن عمل هذه الأخيرة الرئيسي ينحصر في تنفيذ السياسة الجنائية بالمعنى المشار إليه أعلاه، أي القانون الجنائي والمسطرة الجنائية؛ أما ما دون ذلك مما قد يعتبر سياسة، فإنه يدخل ضمن السياسة الجنائية، وإذا تدخلت المؤسسة فيه فلأنها فقط تتعاون مع السلطات الأخرى؛
كما تعتبر أن الحكومة يمكن أن تضع سياسات عمومية، والدستور صريح في ذلك، لكنه مجال بعيد عن اختصاص النيابة العامة الذي ينحصر في السياسة الجنائية، التي تعني القانون الجنائي والمسطرة الجنائية. لذلك تستنتج أن الحكومة لا يحق لها أن تراقب النيابة العامة، لسببين:
السبب الأول: لأن النيابة العامة لا تنفذ السياسات العمومية بل فقط السياسة الجنائية. ولهذا السبب تصر في تقريرها السنوي على حصر معنى السياسة الجنائية في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية؛
السبب الثاني: لأن رئاسة النيابة العامة تعتبر أن وضع السياسة الجنائية من اختصاص البرلمان وليس الحكومة، ولهذا كانت تصر على حصرها في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية، وتصر على إبعاد كل النصوص الأخرى التي يمكن أن تتضمن تدابير السياسة الجنائية أو أي منشور أو دورية يمكن أن تتضمن توجيها أو تحديدا لأولويات السياسة الجنائية، ولهذا السبب اعتبرت ان اختصاصاتها الأخرى تندرج في إطار التعاون مع السلط الأخرى ولا تربطها أي علاقة باختصاصها المتمثل في تنفيذ السياسة الجنائية
ان النتيجة المترتبة على هذا البناء، هو ان الحكومة ووزارة العدل على وجه التحديد لا يمكن أن تربطها أي علاقة بالنيابة العامة، ولو على سبيل توجيه دوريات أو قرارات عامة ومجردة تحدد أولويات السياسة الجنائية؛لكن إلى أي مدى لا يمكن أن يكون الأمر على غير ذلك؟ وذلك للاعتبارات التالية:
أولا: الاعتبارات القانونية
1- بصريح الفصل 93 ينص الدستور على أن “الوزراء مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية كل في القطاع المكلف به، وفي إطار التضامن الحكومي”. ونحن نعرف أن الذي يختص بإعداد مشاريع القوانين الجنائية أو المسطرة الجنائية هي وزارة العدل.
2- بصريح قرار المجلس الدستوري فإن السياسة الجنائية هي إحدى السياسات العمومية؛
3- إذا كان المجلس الدستوري قد اعتبر أن وضع السياسة الجنائية من اختصاص السلطة التشريعية، حيث اعتبر أن “صلاحية وضع السياسة الجنائية … تظل من الصلاحيات المخولة إلى السلطة التشريعية “، فالدستور عندما عنون الباب الرابع منه بالسلطة التشريعية فإنه تحدث عن ممارستها ولم يحصرها عضويا في جهاز البرلمان، اذ لم يضمن مقتضياته ما يفيد ان السلطة التشريعية تنحصر من الناحية العضوية في البرلمان، وحتى بالاعتماد على الفصل الواحد والسبعون منه في فقرته الأولى التي تنص على التالي: “يمارس البرلمان السلطة التشريعية”، ليس فيها ما يفيد انه ينفرد بممارستها.
ثانيا: الاعتبارات الواقعية
من الناحية الواقعية والعملية لا يمكن ان يتم ذلك، لاسيما وان الدستور سمح بالمبادرة الحكومية في مجال التشريع، حيث ان للحكومة ان تتقدم بمشاريع القوانين، وليس هذا فقط، بل يمكن للحكومة ان تشرع حيث ينص الفصل الواحد والثمانون على انه “يمكن للحكومة أن تصدر، خلال الفترة الفاصلة بين الدورات، وباتفاق مع اللجان التي يعنيها الأمر في كلا المجلسين، مراسيم قوانين، يجب عرضها بقصد المصادقة عليها من طرف البرلمان، خلال دورته العادية الموالية.
وفوق هذا، نعرف جميعا ان وزارة العدل والحريات هي الفاعل الأساسي في إعداد المشاريع المتعلقة بهذا المجال، حتى المشاريع التي تنفذها النيابة العامة وتعتبرها من مشمولات السياسة الجنائية فان وزارة العدل هي التي تضع تصوراتها، إذ تتولى إعداد و تقديم مشاريع النصوص التشريعية و التنظيمية ذات الصلة بقطاع العدل ووضع التوجهات و المضامين العامة للسياسة الجنائية؛
لذلك نتساءل كيف يمكن للنيابة العامة ان تشتغل بمفردها ودون تعاون وتواصل مع هذه المؤسسات والهيئات، وكيف يمكن ان يقبل تعاليها والجفاء الذي تواجه به المؤسسات الفاعلة في محيطها؟، وبالمختصر كيف يمكن ان تعيش معزولة داخل دائرة التفسير الضيق لمفاهيم استقلال القضاء وفصل السلط، وهو التفسير الغير الواقعي الذي لا يقبل التنزيل على ارض الواقع.
من جهة أخرى، نجد في تفاعل رئاسة النيابة العامة مع الإجراءات المتخذة للحد من انتشار فيروس كورونا داخل البلاد، مثالا جديرا بالتأمل. حيث اتخذت الحكومة مجموعة من الإجراءات القانونية، كان اولها إصدار مرسوم بقانون 2.20.292 يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية و إجراءات الإعلان عنها، تلاه المرسوم رقم 2.20.293 بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب .
لقد سهرت النيابة العامة على تنفيذ هذه المقتضيات، وهي مقتضيات صادرة في اطار مسطرة خاصة، وهي معروفة بالتشريع فيما بين الدورات، وهي مسطرة يطغى فيها دور الحكومة على البرلمان.
وليس هذا فقط، فلقد سهرت مؤسسة رئاسة النيابة العامة على تنفيذ قرارات وزارية او مشتركة بين الوزارات، ويتعلق الأمر هنا بالقرار المشترك 2020/04/06 الموقع من طرف وزير الداخلية وعدد من الوزراء،ويتعلق بإجبارية ارتداء الكمامات خارج المنزل ابتداء من 07 أبريل 2020.
ان تفاعل النيابة العامة يتجسد خصوصا في إصدار رئاستها لدورية وجهت إلى الوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك لدى محاكم المملكة من أجل حثهم على تطبيق مضمون القرار المذكور ومتابعة كل المخالفين له بالصرامة اللازمة.
وبغض النظر عن الظروف التي صدرت فيها هذه الدورية، فمن الواضح ان الحكومة هي التي توجد في ظل هذه الظرفية بصدد وضع السياسة الجنائية، والنيابة العامة منضبطة لكل القرارات والدوريات الصادرة عنها، ولا تقتصر فقط على تنفيذ القوانين الصادرة عن البرلمان كما جاء في تقريرها عن سنة 2018.
2. مركز البرلمان في مجال السياسة الجنائية
لقد حاولت رئاسة النيابة العامة أن تظهر أن الحكومة لا علاقة لها بالسياسة الجنائية، ولقد اعتمدت في بناء هذه النتيجة على مسلمة مفادها ان السياسة الجنائية التي تنفذها يضعها البرلمان.
وإذا اعتبرنا ما بنت عليه، فهل يمكن أن يعتمد ذلك كأساس لرجوعها إلى البرلمان لمعرفة أولويات السياسة الجنائية؟ كما يطرح نفس السؤال بشأن وجه آخر يمكن ان يثار، فطالما ان البرلمان هو الذي يضع السياسة الجنائية، فهل يحق له ان تقوم رئاسة النيابة العامة امامه بعرض تقريرها عن تنفيذ سياسته الجنائية ؟
رئاسة النيابة العامة تدفع بتفسيرها لمصطلحين، ويتعلق الأمر بمفهومي استقلال السلط وفصل السلط، وبطبيعة الحال فالهدف هو إعطاء تفسير للمقتضيات الدستورية المعنية بحيث يصبح مثول رئيس النيابة العامة أمام اللجنتين سلوك غير دستوري. وتقر بالإضافة الى ذلك بأنها تعتمد في تحديد أولويات السياسة الجنائية على تتبع الراي العام، وهذا يقتضي الإدلاء بالتوضيحات التالية:
– التوضيح الأول: رصد الرأي العام أم رضوخ للضغط؟
ومعلوم أن تتبع الرأي العام ورصده عمل مضني ودقيق، يتطلب موارد بشرية متخصصة وبرامج ودراية خاصة، فما هي إمكانيات رئاسة النيابة العامة في ذلك ؟
ان طرح هذا السؤال يدعو إليه حرصنا على استقلالية حقيقية للنيابة العامة وللقضاء على وجه العموم، اعتبارا لكون النيابة العامة لا تتوفر على أي إمكانيات من القبيل المشار إليه، وهو ما قد يمثل مصدر مساس باستقلالية القضاء مرده أن ما تسميه النيابة العامة رصدا للرأي العام لتحديد أولويات السياسة الجنائية هو في حقيقة الأمر رضوخا واستسلاما لضغط بعض منابر الاعلام وبعض الحركات الاحتجاجية المحدودة الأثر والصدى.
– التوضيح الثاني: ان الذي يضع القانون الجنائي هو الذي يملك تحديد أولويات تنفيذه
فكما تقول القاعدة الفقهية فإن” من يملك الكل يملك الجزء”، أو بالفرنسية « Qui peut le plus, peut le moins» ، فلا يعقل ان يملك البرلمان وضع كل السياسة الجنائية ولا يستطيع أن يحدد أولوياتها؛
وفوق ذلك يجب أن يفهم أن الجهة التي وضعت السياسة الجنائية لها رؤية وأهداف من وراء وضعها لهذه السياسة، لذلك ينبغي الرجوع إليها في تحديد أولويات السياسة الجنائية التي وضعتها باعتبارها صاحبة الاختصاص.
– التوضيح الثالث: تحديد أولويات السياسة الجنائية خرق لمبدأ استقلال القضاء وفصل السلط
الذي يمكن أن يجلب مساسا بهذه العلاقة هي رئاسة النيابة العامة عندما ستبحث عن تحديد أولويات السياسة الجنائية عند الرأي العام، فهي بذلك ربما تسقط في عدم احترام مبدأ فصل السلط باعتدائها على اختصاصات البرلمان، هذا فضلا عن ان ليس في تحديد الأولويات ما يؤثر على القضاء، على اعتبار أن الأمر لا يتعلق بإصدار تدابير فردية تمس بالمتقاضين، بل لتدابير عامة لا يعرف مصدرها على من يمكن أن تشمله؛
أن استقلال القضاء ليست غاية ترجى في ذاتها، بل هي مقررة لما تشكله من ضمانة ضد التدخلات الماسة بشروط المحاكمة العادلة، وضد التأثير على نزاهته وحياده، وضد التدخلات التي يمكن ان تمس بالمراكز القانونية للمتقاضين، ومن ثم فإن ما يخشى منه هو التدخل في حالات فردية، الشيء الذي لا يمكن ان تحدثه التدابير العامة الرامية إلى تحديد الأولويات.
وإذ لن نجادل في أمر المعنى الذي أعطي من طرف المجلس الدستوري، فإن قراءة رئاسة النيابة العامة لفصل السلط واستقلالها، كان يتطلب منها أخذ الفصل الأول من الدستور بعين الاعتبار، وهو ينص على النظام الدستوري للمملكة يقوم “على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها …”؛
نثير الانتباه إلى وجوب التزام رئاسة النيابة العامة بالمعنى الكامل لمفهوم استقلال السلطة القضائية، حيث لا يقتصر الاستقلال على عدم تدخل البرلمان والحكومة في شؤون القضاء، بل يقتضي كذلك عدم جواز تدخل القضاء في شؤون البرلمان والحكومة، والحديث هنا عن تفسير واسع للمقتضيات المحددة لاختصاص النيابة العامة، ومن جملة الأمثلة اختصاصها في مراقبتها للمؤسسات السجنية التي تجاوزت فيها اختصاصها بمراقبة شرعية الاعتقال ومسك سجل الاعتقال، الى مراقبة شروط الاعتقال وتطبيق الضمانات الحقوقية الواردة في الظهير المتعلق بالمؤسسات السجنية.
ويشكل مكمن تجاوز اختصاص البرلمان في أحقيته في مراقبة تنفيذ السياسات العمومية، ولأن النيابة العامة تعتبر انها مختصة بتنفيذ السياسة الجنائية، وهي سياسة عمومية حسب المجلس الدستوري، فإنها يجب ان تنتدب من يقدم تقريرها ويشرح ويستمع إلى ملاحظات نواب الأمة ويزيل كل غموض يكتنف تقريرها.
ويتبين من كل ما سلف، أن رئاسة النيابة العامة عملت على تطويع عدد من المفاهيم بما يخدم هدفها الاستراتيجي المتمثل في صيانة استقلالية صارمة بينها وبين البرلمان والحكومة، وأسست موقفها وتصورها لأدوارها ووظائفها على منطلقات وتأويل وتفسير لا يراعي تطور النظريات والأفكار القانونية ولا واقع المؤسسات المحيطة بها، وتسببت في خلق فراغ بين تم اللجوء إلى الترقيع لسده، وهو الذي يثيره السؤال التالي: إذا كان البرلمان من بين المؤسسات التي يعرض عليها ويناقش أمامها أو لديها تقرير رئاسة النيابة العامة فهل من اللائق أن ينوب عضو من البرلمان عن رئاسة النيابة التي حلت محل وزير العدل في ممارسة الاختصاصات السياسية والادارية، ومن يناقش ولم؟
طنجة في 15 يونيو 2020